• 2022-01-20

هل في القرآن لفظ أعجمي؟

هل في القرآن الكريم لفظ أعجمي؟
هذا سؤال قديم متجدد، لا يمكن الإجابة عنه إلا بمعرفة حقيقة اللغة. وأصل هذه الحقيقة هو أن اللغة كائن حي يتطور ويتبدل وينتقل من بيئة إلى أخرى، وتتبدل أحكامه بحسب ما تلابسها من ظروف نفسية واجتماعية وسياسية ونحوها. وعلى هذا فالكائن اللغوي لا يستقر على حال جامدة. وينبثق من هذا المفهوم سؤال بالغ الأهمية! وهو: هل العربية تخضع لهذا التطور وهي لغة القرآن الكريم، وبه محفوظة؟! الجواب: نعم! ولكن ذلك لا يعني أن التطور اللغوي يهدم العربية نحواً وصرفاً ودلالة وبلاغة، فالنحو العربي خالد بخلود العربية، والتطور لا يُفضِي بها إلى الفناء والانقراض، وإنما يجري التطور على طرق دراستها، ووسائل تعليمها، فإذا تعدى هذا المستوى، فأكثر ما يكون التطور في معاني الألفاظ، فتستحدَث كلمات جديدة، وتندرس بعض الكلمات حيناً، ثم لا يلبث المنْدَرس في الظهور على السطح، من خلال بعض اللهجات التي تطورت من أصلها الفصيح القديم، فيما يعرف بـ(الركام اللغوي)، وتُستحدَث فيها ألفاظ جديدة لم تكن مألوفة. وهذا المستحدَث قد يكون له جذر لغوي عربي فصيح، وهذا لا يعدو أن يكون عربياً. وقد يكون المستحدَث مما ليس له جذر عربي، وهو مما يدخل العربية من ألفاظ أجنبية الأصل، ثم لا تلبث هذه الألفاظ أن تشيع في العربية ويستخدمها العرب؛ لأُلفتها عندهم، ولكن لا تخرج عن دائرة الأجنبي. وهذا النوع هو الذي يُعرَف باللفظ الأعجمي في اللغة العربية، وهو مناط موضوعنا: هل في القرآن لفظ أعجمي؟
ولعل القارىء الكريم، يفطُن إلى أن ما تقدم من الكلام على التطور اللغوي استهدف الإجابة عن هذا السؤال. ولا مناص من العلم هنا أن كتاب الله تعالى تضمَّن ألفاظاً ليست عربية في أصولها، بيد أن علماء العربية اختلفوا في هذه الحقيقة إلى مذهبين، أولهما: ذهب إلى أن كتاب الله ليس فيه شيء من غير العربية، ورأسُ هذا المذهب الإمام اللغوي أبوعبيدة مَعْمَر بن المثنى رحمه الله، فإنه كان يقول: "مَن زعم أن في القرآن لساناً سوى العربية فقد أعظم على الله القول!". وحجته فيما ذهب إليه قوله تعالى: "إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً" (سورة يوسف/ الآية 2).
والحق أن الحجج القرآنية في النص على عربية القرآن كثيرة، ولكنّ أبا منصور الجواليقي – في نقْلِه مذهب أبي عبيدة - اقتصر على الاحتجاج بهذه الآية، وهي حجة بالغة، ومثلها قوله تعالى: "لسان الذي يُلحِدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين" (سورة النحل/ الآية 103)، ومنه قوله تعالى: "إنَّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" (سورة الزخرف/ الآية 3)، ومنه قوله عز وجل: "بلسان عربي مبين" (سورة الشعراء/ الآية 195). ونجتزئ بآية أخرى من كتاب الله تعالى هي قوله: "قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون" سورة الزُّمُر/ الآية 28).
فهذه الآيات وغيرها كثير حجج بالغات على مَن زعم أن في القرآن ما ليس عربياً.
وأما الفريق الثاني فسيدهم عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، وتبعه الإمامان مجاهد وعكرمة وغيرهما، فقد رُوِي عنهم في ألفاظ كثيرة أنها من غير لسان العرب، نحو: سجِّيل، ومِشكاة، وأباريق، وإستبرق، واليَمِّ والطُّور وغيرها.
فأين الصواب؟ كلاهما مصيب إن شاء الله! تلقينا هذا الجواب من اللغوي الموهوب: أبي منصور الجواليقي (موهوب بن أحمد بن محمد المتوفى عام 540هـ)، فقد جرَّد لهذه المسألة كتابه النفيس الموسوم بـ(المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم)، جمع فيه طائفة من الكلمات الأعجمية التي عرَّبها العرب، واستخدموها في لسانهم بعد أنْ أخضعوها للغتهم وغيَّروها إلى ما يتفق مع العربية، فأبدلوا الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مَخرَجاً كما نص عليه الجواليقي رحمه الله. وبذلك صارت تلكم الألفاظ عربية.
وقبل الجواليقي بنحو ثلاثة قرون قال سيبويه - إمام العربية رحمه الله – في كتابه النفيس: لم يذكر اسم الكتاب "كل ما أرادوا أن يعَرِّبوه ألحقوه ببناء كلامهم، كما يُلحِقون الحروف بالحروف العربية". ما أطيب هذه المقولة وما أنفَسها في فهْم تطور اللفظ الأعجمي حتى يصبح عربياً.
قال الجواليقي في التعليل لصواب المذهبين: "وذلك أن هذه الحروف - يعني الكلمات المعَرَّبة - بغير لسان العرب في الأصل، فقال أولئك - يعني المانعين - على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعرَّبته فصار عربيا بتعريبها إياه، فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل". قلت: ومَن ينكر الأخذ والعطاء بين اللغات؟! فهذا الذي ذكره الجواليقي متفَق عليه في أوساط اللغويين، في جميع اللغات.
وقد استشهد الجواليقي على تِلْكُم الألفاظ بالشعر العربي القديم والمأثور من كلام العرب وحَكَمهم وأمثالهم؛ لكي يؤكد عروبتها، فما استخدمته العرب فهو عربي. ومن هذه الحقيقة يتبين أنْه ليست في القرآن ألفاظ غير عربية.
وما زلنا نقرأ في كتاب الله أسماء الأنبياء عليهم السلام، ومعظمها أسماء أعجمية، أليس إبراهيم جد نبينا عليهما السلام اسم علم أعجمي؟ ونحن نُدَرِّسه لطلابنا مثالاً على العَلَم الأعجمي الممنوع من الصرف؛ للعََلََمية والعُجْمة! والقرآن الكريم يزخر بطائفة كبيرة من الأسماء الأعجمية سواء أكانت أسماء أنبياء؟ أم غيرها؟ نحو إسماعيل، وموسى، وعيسى، وهارون، ويوسف، ويعقوب، وغيرها كثير.
هذا وكنت أصبو إلى الاحتجاج على تعريب اللفظ الأعجمي واستخدامه في لغة العرب بشواهد من الشعر العربي الجاهلي، ولكنني أعرضت عنه خشية الإطالة، ولعله يكون محط اهتمام في مقال آخر.

آخر أخبار د.علي المدني

  • من وضع علم النحو

    2021-02-07

    لا أحد ينكر جهد أبي الأسود الدؤلي في أوليات النحو، من خلال الإشارة إلى بعض المصطلحات النحوية فقد أشار ابن سلام الجمحي إلى سبقه إلى ذكر بعض المصطلحات النحوية كالفاعل والمفعول والمضاف وغيرها. وكان يقول عن نفسه:" إني لأجد للحن غمزًا كغمز اللحم". هذه ال...